البيئة وقضايا التنمية

في خضم الأزمة السياسية التي تجتازها البلاد ووسط صراعات المحاصصة التي شلت العمل السياسي الفعلي باعتباره إحاطة وانكباب ومعالجة للشأن العام، فإن شرف الاتحاد الشعبي الجمهوري ممثل في جديته و هو عدم الانسياق وراء الخزعبلات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. حيث آثر الاهتمام بأمهات القضايا الوطنية والجهويّة الحارقة و ذات اﻷولوية.
        والاتحاد الشعبي الجمهوري الذي انتهج الجدية سبيلا و اعتنق عمق الرؤية في المقاربة مبدأ ولم يكن همه الانسياق خلف الإثارة طمعا في شعبيّة زائفة وإنّما شرفه أن يلتزم أبناؤه بما نذروا أنفسهم له من مسعى جاد لتونس التي في خاطرنا جميعا.
        ففي حين يبدد الفرقاء السياسيون طاقتهم و جهدهم في اللغو والصراعات الوهمية ها نحن اليوم نستعد للخوض في مشغل من أهم المشاغل ومبحثا مستبعدا نظرا للاعتقاد السائد بأنه مطلب ثانوي لا يتنزل في صدارة أولويات مجتمع يعاني الخصاصة والبطالة وضنك العيش.
فالموقف السائد اليوم هو نفس الموقف الذي عبرت عنه بلدان العالم الثالث في مؤتمر FOUMEX سنة 1972 استعدادا للمؤتمر العالمي الأول للبيئة الذي دعت له الأمم المتحدة. وانعقد في نفس السنة في ستوكهولم.
حيث كاد يختزل موقف البلدان النامية في العبارة التي صرح بها ممثل الصين إذ قال : مرحبا بالتلوث الناتج عن مادة DDT إذا كان ذلك سيحمينا من الملاريا.
مع الأسف ما زلنا ننظر إلى ما نعتبره نقصا في التنمية دون أن ننزله في إطار أوسع وأشمل يدرج الآثار البيئية في الحلول المقترحة كأحد أهم محددات خياراتنا وكعنصر أساسي في استدامة النمو.
فنحن نمدن الأرياف دون مراعاة لضرورة ملاءمة العمران والمواد المستعملة للبيئة وللمناخ مما تنجر عنه كلفة طاقية مرتفعة تنفق في التدفئة والتكييف.
ونحن نمد العمران دون مراعاة لآثارها على المناطق العمرانية من تلوّث وماء.
ونحن نفتك بالغابات دون مراعاة لدورها الحيوي في محيطنا وتوازنه ودون أن نعي أن في إهدارها "إهدار الرأس مال الطبيعي '' .
ولا يغيب إلى جانب قيمتها الاقتصادية قيمتها اﻹيكولوجية من حيث هي وكر لحشرات ملقحة POLINISATTERS
ومستودع لأعشاب صيدلانية، وتتحكم جذورها في الفيضانات وتصد الرياح وتحفظ التربة من الانجراف والتآكل إضافة إلى نشاط التخليق الضوئي لنباتاتها PHOTOTYSETHEMS .
        ونحن في سعي محموم نحو مزيد من المردودية الفلاحية باحثين عن غلال تجنى قبل موسمها لا طعم ولا رائحة لها ، يكفي أن شكلها و لونها يسر الناظرين. ونستعمل في سبيل ذلك شتى أنواع المبيدات ودون حساب ، ناسين أو متناسين أنها ستتسلل إلى أجسادنا لتحدث شتى أنواع الأمراض والتسممات المزمنة وإلى تربتنا ومياهنا الجوفية لتلوثها نهائيا.
          ونحن نستهلك شتى أنواع الأدوية ثم بعد ذلك نلفظها بعد قضاء حاجتنا وكثيرها يحافظ على فاعليته فتجتمع في المجاري مع ما تلقي به المخابر من نفايات وبعدها نتساءل عن انتشار التشوهات لدى الأطفال والاختلالات الهرمونية لدى غيرهم.
        ونحن نستورد البذور المعدّلة جينيا ونربي المواشي بشكل منافي لأبسط قواعد الطبيعة ونحقنها ونعلفها بما نعلم وما لا نعلم ثم نتساءل لماذا انتشرت بيننا الأمراض والعاهات.

سيداتي، سادتي هذا غيض من فيض.
          لا شك أن عديد الإكراهات التنموية دفعتنا دفعا منذ عقود إلى محاولة الإيفاء بحاجيات مستعجلة فكانت خياراتنا أحادية المنحى غفلت أو تغاضت عن مجمل الآثار الجانبية التي أتينا على ذك بعضها ولكن آن الأوان لندرك أن تبعات ما اقترفناه بأنفسنا على غاية من الخطورة.
أولا: على صحتنا وصحة الأجيال القادمة.
ثانيا: على نمطنا المجتمعي وهويتنا ، حيث دفعنا دفعا إلى أن تتحول إلى مجتمع استهلاكي يستهلك مواد عابرة للقارات أحيانا للمحيطات وقطعنا مع موروثنا من الأكلات المحلية التي هي جزء من تراثنا وثقافتنا علاوة على أنها أسلم صحيا وأقل كلفة و إنفاقا.
ثالثا: قطعنا مع إرثنا العمراني وتنافسنا في معمار هجين ومواد بناء لا صلة لها بطبيعتنا ومناخنا.
رابعا: فرطنا في موروثنا من البذور المحلية و التي هي نتاج لتراكم البذور المعروفة عندنا لنصبح اليوم رهينة لاستيراد البذور المعالجة جينيا وغير القابلة لإعادة الاستعمال بما يهدد أمننا القومي الغذائي.
وخامسا وسادسا وووووو ...................
أما آن الأوان لندرك حجم الدمار الحاصل وندرج الهاجس البيئي في خياراتنا التنموية.
في اعتقادي هناك طريق وسطى بين الفاعلية الاقتصادية المطلقة ورومنسية البيئيين الحالمين بالعودة إلى عصر ما قبل التصنيع. تلك طريقنا فلتكن بوصلة منهاج التنمية الذي ننشد.