المؤسسة التونسية ضمان للسيادة الوطنية


المؤسسة التونسية ضمان للسيادة الوطنية

 

        إن جملة الخيارات التي أقدمت عليها القيادة السياسية في تونس في منتصف التسعينيات من القرن الماضي أتت نتيجة تماهيها مع المتحولات السياسية والاقتصادية التي عقبت سقوط جدار برلين. حيث انفرد المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدّة بهيمنة تامة على المشهد العالمي. وحصل لديه اليقين بأن المنوال الأمريكي الفائز في مواجهة القطبين يمثل النموذج الذي يتحتم على الجميع احتذاءه والانخراط فيه. وبصعود المحافظين الجدد إلى سدة القرار أصبحت الليبرالية بمثابة العقيدة الوحيدة التي يستوجب على العالم بأسره القبول بها والتقييد بنهجها.

        ووجد هذا الخيار في تطور تقنيات التواصل وفي صدارتها تعميم الانترنات خير حليف له لفرض مفهوم العولمة. وضّف المحافظون الجدد مختلف الأجهزة والمنظمات الدولية الخاضعة لهم لتحويل التنظير إلى واقع.

        فنشطت منظمة التجارة العالمية لإعداد معاهدات تكرّس ما اتفق عليه من خيارات وتحركا صندوق النقد والبنك الدوليين دعما وإقرارا.

        ووجدت تونس نفسها تنخرط في المسار دون تحفظ ولا تردّد. وتكفّل الاتحاد الأرووبي برفع قدرة المؤسسات التونسية على مواجهة حدّة المنافسة الدولية. فتعهد الإتحاد الأرووبي ببرنامج لتأهيل المؤسسات التونسية قصد تحسين قدرتها التنافسية. وتهيئ لأصحاب القرار عندنا أنه بإمكان مؤسساتنا أن تكتسح الأسواق العالمية في مقابل فتح سوقنا أمام السلع الأجنبية. وتحت شعار انخراط تونس في الاقتصاد العالمي رفعت الحواجز القمرقية وأزيلت العقبات أمام التوريد الحرّ.

        وسرعان ما اتضح بطلان هذا التمشي وأقفلت المؤسسات الأكثر هشاشة الواحدة تلو الأخرى مسرِّحة عمالها. وعوض أن يسمح هذا الخيار بامتصاص البطالة أصبح المغذي لها. ولكن السلطة حينها وجدت نفسها بين فكي كماشة. فمن ناحية يشير الواقع إلى تنامي الصعوبات التي تواجهها المؤسسات الوطنية ومن ناحية أخرى تنامت طبقة من ذوي النفوذ والقرب من دوائر القرار تحكمت في مفاصل الاستيراد الذي يدر عليها ربحا وفيرا ليست مستعدة للتفريط فيه.

        وعموما لم يكن الوضع السياسي يسمح للسلطة بالتراجع عن تعهداتها حتى وإن رغبت في ذلك. لأن وضعها الهش كان لا يمكنها من مواجهة ضغط القوى الأجنبية التي أحكمت سطوتها على السوق الداخلية.

فتمادت المؤسسات التونسية في مكابدتها تنطفئ شعلتها الواحدة تلو الأخرى. وتمادى النسيج الصناعي الوطني في الانكماش والتفكك مقابل تمدّد وارتفاع نسق استيراد المنتوجات الاستهلاكية. وبمفعول ما دفع من مكافاءات تسريح وجرايات تقاعد مبكر أصبح هاجس عجز الصناديق الاجتماعية خطر داهم.

        فالمؤسسة لم تعد قادرة على استيعاب طالبي الشغل ولا حتى على المحافظة على رصيدها العمالي. وأدت هذه الخيارات وما نجم عنها من صعوبات اجتماعية طبيعية إلى سقوط النظام.

        وكان ينتظر أن تكون الثورة منطلقا لمراجعات جذرية تعيد للمؤسسة التونسية فضاءها الطبيعي الحيوي أي السوق الداخلية وتهيئ لها الأرضية الصلبة حتى تنمي من قدرتها التنافسية بشكل طبيعي. ولكننا وجدنا أنفسنا أمام حكومات تستنسِخُ ذات السياسات التي قادت البلاد إلى الثورة. فتمادى وضع مؤسساتنا في التدهور. ورغم سياسات التوسع في الإنفاق العمومي لم تجن شيئا يذكر مما انفق من مال عام. بل أن حجم الاستيراد الرسمي والموازي ازداد زخما وتنوعا بما نجم عنه تدني لقيمة العملة وارتفاعا في كلفة الإنتاج وتراجعا في القدرة التنافسية للمؤسسات التونسية.

        إن مؤسساتنا هي العمود الفقري لاقتصادنا، وهي المشغل المعوّل عليه لإستعاب الباحثين عن الشغل وهي الرافعة الحقيقية للنمو الاقتصادي، ففي ازدهارها ازدهار لبلادنا وضمان لقدرتنا الشرائية وموارد للدولة في مجابهة دورها الاجتماعي وتوازن للصناديق الاجتماعية. فوجود مؤسسات ناجحة ومتوازنة تحميها الدولة وترعاها يساهم في تقليص عجز ميزاننا التجاري وفي حاجتنا للاستيراد الخارجي. وهي دعامة لسيادة قرارنا تخلصنا من الخضوع للإملاءات الخارجية وتضمن استقلال قرارنا.

        ولن يتحقق ذلك ولن تستعيد المؤسسة عافيتها إلا بقرار سياسي جريء يعيد لها زمام المبادرة.

        ولا نراه في الاتحاد الشعبي الجمهوري ممكنا إلا بإقرار الحماية. حماية لا تكرَّسُ لخدمة مؤسسات بعينها ولكن حماية لقطاعات إنتاجية يحكمها مبدأ المنافسة بين المؤسسات العاملة فيها حتى يكون البقاء فيها للأفضل.

        ونحن نعتبر أن مؤسساتنا لا تظل في طور النشئ وإن مضى على بعضها عقود وهي في حاجة إلى الرعاية من الدولة وإلى مجهود وطني في مؤازرتها. وذاك حقها علينا إن أردنا منها أن تضطلع بالأدوار التي ننتظرها منها.