الحمائية الاقتصادية القطاعية


المقاربة الاقتصاديّة

للإتّحاد الشّعبي الجمهوري







إذا استثنينا السّنوات الأولى من الاستقلال فإنّ الاقتصاد التونسي مرّ بثلاث مراحل انتهجت فيها الدولة سياسات اقتصادية مختلفة.

أوّل مراحلها كانت اعتماد الاقتصاد الموجّه من الدولة فاضطلعت خلالها الدولة بإنشاء الأقطاب الصناعية وإدارتها والتحكّم في مفاصل الاقتصاد طبق برامج خماسية وسعت خلالها إلى تطبيق سياسة التّعاضد.

تلتها مرحلة ثانية اتّسمت بالإدراج التدريجي والجزئي لاقتصاد السوق وبشكل غير مكتمل إذ لم تحقّق الشّروط المستلزمة من شفافية وتنافسية حقيقية وطغت عليها الزبونيّة. كما شهدت هذه الفترة انفتاحا محدودا ومقيّدا على الاستيراد خضع لترخيص أسند لأفراد محدودين من ذوي الحضوة والنفوذ لدى السلطة السياسية. وأبرز ما تميّزت به هذه الحقبة هو فتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية خاصّة من خلال سنّ قانون 72 الذي سمح بانتصاب وحدات إنتاجية غير مقيمة أتاحت فرص التشغيل لليد العاملة غير المختصّة.

ومع بداية التسعينات وخاصة منذ إبرام معاهدة الشراكة مع الإتحاد الأوربي سنة 1995 ثم معاهدة منظمة التجارة الدولية اعتمدت الدولة ما يسمّى "بإدراج أو انفتاح الاقتصاد التونسي على الاقتصاد العالمي". وطبقا لهذه التعهّدات وبضغط من صندوق النقد الدولي أزيلت الحواجز أمام السلع المورّدة وتخلّت الدولة عن المؤسسات العمومية بالخوصصة وأصبح المنوال الليبرالي قوام السياسة الاقتصادية المعتمدة. وحرصت الدولة على التحكّم في الموازنة والتضخّم المالي استجابة لشروط صندوق النقد الدولي وتقلّص دورها الاجتماعي.

وقد نجم عن تطبيق هذه السياسات تسريح العمّال بينما ظلّ النموّ الرّخو المسجّل خلال العشريّة الأخيرة لحكم بن علي غير قادر على امتصاص البطالة خاصة لدى الشباب من حاملي الشهادات. وتنامت الفوارق الاجتماعية ببروز طبقة أثرت خاصة من عائدات الاستيراد المكثف للسلع فيما تراجعت الطبقة الوسطى وتدحرجت نحو الطبقات الدنيا.

مثل فشل هذا المنوال الاقتصادي وما نجم عنه من أزمة اجتماعية وانسداد الأفق أمام الشّاب الطّالب للشّغل أهم العوامل التي غذّت ثورة 17 ديسمبر - 14 جانفي.

إلاّ أنّ حكومات ما بعد الثورة لم تسع إلى مراجعة الخيارات الاقتصادية التي سبقتها بل أصرّت على السّيرعلى نهجها. فلم يكن لها من بدّ سوى الالتجاء إلى التداين الخارجي لتمويل المدّ التوسيعي للميزانية وللإنفاق العمومي غير المسبوقين حيث بلغ عجز الموازنة نسبا قاربت 9%  من الناتج القومي الخام. وقد كانت طبيعة المرحلة وتراجع الإنتاج لا يسمحان بتعبئة الموارد المستلزمة لتمويل الموازنة. كما شهدت هذه الفترة تكثيف الاستيراد  للمواد الاستهلاكية ممّا نتج عنه عجز في الميزان التجاري. وتبعا لذلك تراجعت قيمة العملة المحلّية. فتولّد عن اجتماع أسباب التضخم المستورد ونمو الكتلة المالية المتداولة، تضخّم مالي ناهز بالأرقام الرسمية 8% .

وفي حين تنذر كل المؤشّرات باستفحال الأزمة الاقتصادية وتنامي التداين الخارجي الذي ستتجاوز خدمته مع سنة 2017 نسبة 40 %  من الموارد الجبائية فإنّ الحكومة لازالت تلتزم نفس السياسات انصياعا لإملاءات صندوق النقد الدولي.

وبناء عليه، فإن الإتحاد الشعبي الجمهوري لا يرى مخرجا لهذه الأزمة الاقتصادية ولا حلاّ للأزمة الاجتماعية ولا معالجة لآفة البطالة وبخاصة بطالة الشباب ولا إصلاحا في أي مجال كان إلاّ باعتماد الحمائية القطاعية.

والحمائية القطاعية هي حماية كل القطاعات القادرة على إنتاج ما تستحقّه السّوق التونسية. وذلك بإيقاف استيراد المنتوجات الأجنبية التي تنافسها في السّوق المحلّية.

والإتحاد الشعبي الجمهوري يعي أن هذه المقاربة ستواجه على الأقل أربعة عقبات هي :

1.   وجود معاهدات والتزامات تكرهنا على فتح أسواقنا أمام هذه السلع لذا يقترح

الإتحاد الشعبي الجمهوري إجراءات عدّة للحدّ من اكراهاتها :

  • أولا الترفيع الرّادع للاستيراد للأداء على القيمة المضافة على السلع الاستهلاكية المستوردة دون المساس بالمنتوجات الضرورية لآلة الإنتاج.

  • ثانيا التدقيق الصارم في المكّونات المستعملة في السلع المستوردة ورفض دخولها متى اتضح احتواءها على موادّ حولها شبهة إضرار بالصحة.

  • ثالثا تشديد الإجراءات الإدارية.



2.   تتعارض مقاربتنا مع السياسات التي يدعو صندوق النقد الدولي إلى اتّباعها والتي تقوم أساسا على فتح السوق والخصخصة ومقاومة التضخّم المالي والتحكّم في الموازنة وتحجيم دور الدولة.

وإن كانت بعض هذه العناصر منها أساسا الحدّ من التضخم المالي والتحكم في الموازنة مرحّب به إلاّ أنّ المصلحة الظرفية قد تقتضي القبول بالانحراف بها.

أمّا في ما يتعلق بفتح السوق التونسيّة للمنافسة الأجنبيّة فإنه اتّضح خلال العشريّتين الأخيرتين قلّة جاهزيّة المؤسّسات التونسيّة على مواجهتها لأسباب عدّة.

وعموما وخلافا للمنهج الذي ينادي به صندوق النقد الدولي فإنّ المشروع التونسي تأسّس على قيم تضامنيّة تكفلها الدولة لذا فكل تغيّب لدورها يعدّ تخلّيا على شرائح عريضة من الشعب التونسي و إخلالا بالتزامها.

لذلك يطالب الإتحاد الشعبي الجمهوري باسم المصلحة العليا للبلاد بعدم الإذعان لإملاءات صندوق النقد الدولي مهما كانت التّبعات لأنّها تهدّد كياننا المجتمعي برمّته.

3.   إنّ الحمائيّة القطاعيّة من شأنها أن تثير حفيظة شركائنا الأجانب. لذا وجب الفصل بين :

·   بلدان الإتحاد الأوربّي.

·   والبلدان التي خارجه.

أمّا الأولى، فإنّه من اليسير طمأنتها بأنّ قيمة المعاملات معها ستظلّ على حالها وإنّما سيقع فقط التعديل في نوعيّة وطبيعة السلع المستوردة منها.

أما الثانية وفي غياب مصالح إستراتيجية حياتية تجمعنا بها ولكون الميزان التجاري يميل مطلقا لصالحها فإننا في حلّ منها.

4.   ولعل أشرس المقاومة للمنوال الذي نقترحه سيكون مصدرها اللوبيات الداخليّة التي أثرت بإغراق السّوق بالسّلع المستوردة. ورغم قدرتها على التّعطيل والعرقلة إلاّ أنّه لابدّ من مقاومتها والتصدّي لها بدافع المصلحة الوطنيّة.




الجباية



إن الواجب الجبائي مسؤولية وطنية يتحتّم على كلّ من يستوجب عليه الإيفاء به. ولعل جانبا من القصور الذّي نشهده مردّه قلّة الوعي بأهمّية الواجب الجبائي وقلّة الثّقة أو انعدامها في الدولة. وقد يستحثّ اعتماد مزيد من الشفافيّة في إدارة المالية العمومية المواطنين للإقبال على الإيفاء بواجبهم.

إلاّ أنّه ورغم الإقرار بوجود تهرّب جبائي لدى المهن الحرّة والمتمتّعة بالنظام التقديري فإنّ التهرّب الفاحش تمارسه الفئة الأكثر ثراءا، ويتمّ ذلك في كنف ما يضمنها لها القانون من امتيازات جبائية تحكم استغلالها بنصح وتوجيه من طوابير الخبراء الجبائيين.

والامتيازات الجبائية التي سُنّت بدعوى التحفيز على الاستثمار اتّضح بطلانها.

لذلك ينادي الإتحاد الشعبي الجمهوري بإصلاح جبائي شامل يبدأ بإلغاء الامتيازات الجبائية على أن تتمّ مراجعة النظام الجبائي لاحقا. إذا لابدّ أن يستعيد الاقتصاد عافيته وأن تدفع عجلته حتى لا يقع توزيع الفقر بتوزيع موارد شحيحة.



الصناديق الاجتماعية



إنّ الأوضاع المتردية التي آلت إليها الصناديق الاجتماعية وإن تفاقمت في السنوات الأخيرة إلا أن بشائرها كانت ملحوظة قبل الثورة. وكان العزم قائما في الفترة الأخيرة لحكم بن علي على الترفيع في سن التقاعد لمجابهة العجز المسجّل.

وتسود الآن لدى الحكومة رغبة في إعادة طرح هذا الخيار بوصفه الحل الوحيد القادر على امتصاص جانب من العجز المسجّل. فخيار الترفيع في نسب المساهمة في تمويل الصناديق يرهق القدرة الشرائية للمواطن ويضاعف من أعباء المؤسّسة ويحدّ من قدرتها التنافسية بمضاعفة كلفة الإنتاج.

والإتحاد الشعبي الجمهوري يعتبر أنّ  كلّ هذه الحلول تلفيقية لا جدوى منها بل من شأنها  تقليص فرص التشغيل الشحيحة أصلا.

الإتحاد الشعبي الجمهوري لا يرى مخرجا للصناديق سوى من خلال دفع حقيقي للاقتصاد وتنامي قدرته على استيعاب طالبي الشغل من المعطلين عن العمل.


صندوق الدعم



لقد وقع إقرار صندوق الدعم على المواد الغذائية الأساسية والمحروقات كإجراء يندرج ضمن سياسات التوزيع الاجتماعي في فترة كانت فيها الدولة تضع على أعلى سلّم مهامّها دورها الاجتماعي.

ورغم التحولات التي عرفتها السياسات الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا فإن الدولة لم تتخلّ على التزامها بصندوق الدعم.

واليوم أمام الضغط الذّي أصبح يمثّله هذا الصندوق على ميزانية الدولة وتأكد انتفاع شرائح كبيرة منه ممن ليسوا في حاجة له تعالت بعض الأصوات منادية بإلغائه.

ورغم أن ربح هذا الصندوق لا يوزع بشكل عادل وتشمل خدماته الغني والفقير والمقيم والعابر على حد السواء فإنه في أصل الأشياء بمثابة الضريبة السلبيّة التي تدفعها الدولة للمستهلكين للمواد المدعمة دون تمييز. فهو في المحصلة قدرة شرائية إضافيّة تمنحها الدولة لكل المستهلكين.

ويفترض أن تمثّل هذه القدرة الشرائية أداة لمزيد من الطلب على الاستهلاك أو يخصّص جزء منها للادّخار وفي كلتا الحالتين فإن الأموال المهدورة بعنوان الدعم كان يفترض أن تحدث مزيدا من العرض أي مزيدا من الاستثمار والتشغيل.

فإن كان واقع الأمر لا يفيد بوجود هذه الحركيّة وهذه التفاعلية فإن السبب يعود إلى

المعضلة الأصلية التي يتخبّط فيها اقتصادنا والناجمة عن تدفّق السّلع الأجنبيّة التي تستأثر بالقدر الوافر من الاستهلاك.

لذا فإن التراجع عن نيّة الدعم جزئيا أو كليا لن تساهم إلا في مزيد تفقير الفئات التي تعاني الخصاصة أو تقف على أبوابها. وموضوع الدعم وإن كان يحتاج إلى مراجعة لكونه ينسحب على الجميع دون تمييز للوضع المادي والاجتماعي للمنتفعين به فإنه يظلّ ثانويا إن لم تسبقه انتعاشة اقتصادية حقيقية.